استيقظت من قيلوله قصيره استمتعت بها ظهر اليوم مستخدما مكيف الهواء في غرفة نومي رغم اننا في الايام الاخيره من شهر اكتوبر ودفعت جسمي دفعا طوال الممر الطويل بين غرفة نومي والصاله التي اترك فيها الكومبيوتر وفيه كذالك جهاز التلفزيون والذي اتركه دائما لاستلام فضائية العربيه الحدث. واليوم وبعد ان ضغطت على زر التلفزيون لتشغيله ظهر على الشاشه وجه اعرفه وكان الخبر بخصوص تعين سفير للسودان في جنوب السودان والسفير هو الدكتور مطرف الصديق
صوره - 1مع الاخوه السودانيين في افكوى |
اخذتني الذاكرة الى فتره زمنيه وقبل اكثر من عقدين وبالضبط في اواخر عام 1988 اي في اواخر ايام سياد بري عريف الشرطه الايطاليه-الصوماليه السابق والذي حكم البلاد 22 عاما. حيث حلت بي رحال الغربه في الصومال كمدير مشروع لمنظمة الفاو, وهناك تعرفت على اصدقاء سودانيين طيبين . نعم طيبين فخلال العقود الثلاثه والنصف التي عملت فيها الشرق الاوسط وشرق وشمال افريقيا لم اجد مثل طيبة السودانين والمصريين وعلى مايبدو ا ان هذين الشعبين يرتون الطيبه من مياه النيل و للسودانيين طيبة مضاعفة لان عندهم نيلين النيل الابيض والازرق. فبعد ايام من وصولي الى الصومال لم اجد عراقيا واحدا هناك وقد عرفت حقيقه بأن جميع الموظفين الدوليين الكورد اللذين عملوا في الامم المتحده ,رغم قلتهم, قد قضوا فتره عمل في الصومال ومن بينهم المرحومين د.اكرم الجاف والدكتور عصمت كتاني والذي كان اول شخص من العالم الثالث يرأس الجمعيه العموميه للامم المتحده وحضر الى الصومال ممثلا عن بطرس غالي وعملت معه لفتره وعرفته عن كثب وقد قامت جريدة عيديد والمسمات بلديق بسبنا وتهديدنا نحن الاثنين لاننا "كورديين" ومازلت احتفظ بهذا العدد من الجريده والمطبوعه بجهاز رونيو
واما الاخوه السودانيين فكان اكثرهم من الموظفين الدوليين واطباء و قاموا بالواجب و بكل رحابه تبنوني انا وعائلتي اذا اصبحنا اعضاء في جاليتهم الكبيره والمنظمه و دعونا الى بيوتهم واكلنا الويكه والملاح والكسره مثلهم. كانت العوائل تذهب صباح كل يوم جمعه الى مزرعة الشيخ زايد في افكوي (صوره1) والتي كانت تقع مباشرة على نهرالشبيلى (صوره 2) وتبعد عن مقديشوا حوالي 40 كم . كانت تلك هي الفسحه الوحيده للعوائل في بلد كانت كل المؤشرات تدل على انها كانت على شفا الهاويه
صوره - 2 مدينة افكوي |
بعد الانتهاء من رحلة افكوي كان الرجال يجتمعون ليلا في حديقة السفاره السودانيه للعب الورق والطاوله والدومينو وكان السفير يشترك في كل هذه الفعاليات. واستمرت هذه الفعاليات التي كنا نفتعلها للترفيه عن انفسنا وعائلاتنا في بلد كان الامان والرفاهيه فيه مفقوده
يوم 30.6.1989 وقع انقلاب عمر البشير على حكومة الصادق المهدي في السودان. ولم تستغرق انعكاس الانقلاب فتره طويله لالقاء ظلالها على الجاليه السودانيه في مقديشو وبعد يومين او ثلاثه من الانقلاب توجهنا لحديقة السفاره وبدل الطاوله والكارته ظهرت المصاحف لتلاوتها من قبل البعض من زملائنا وعرفت ان السفير رحب بالاوضاع الجديده في الخرطوم واعلان نهاية الترفيه البسيط الذي كنا نتمتع به في تلك الفتره في مقديشو البائسه حيث كانت الاجواء تهيأ البلاد لتكون حاضنه للفوضى والقتل. ان ماحصل لشلتنا اصابتني بنوع من الاحباط, اذ ان عهدي بالسودانيين غير مارأيته في تلك الايام. لقد عرفتهم عن كثب في اوائل السبعينيات مزاملا اعزاء سودانيين من طلبة الدكتوراه في جامعة ليفربول. وعرفتهم اكثر في اواسط ذالك العقد اذ ساهمت في انشاء اول كليه للطب البيطري في طرابلس- ليبيا مع زميلي الدكتور حماد بكادي, وكنا نحن الاثنين رئيسين لقسمين من الاقسام الثلاثه في الكليه ود.حماد كان عديلا للصادق المهدي والذي كان يعيش في طرابلس انذاك. وبمرور الايام كان اكثر اعضاء هيئة التدريس في الكليه الناشئه من السودانيين. والطرفه المتدواله بيننا انذاك كان حول التشابه بين الكورد والسودانين هو ان الكردي عندما يقول"نه" معناه كلا اي تشبثه بارائه مثلهم مثل السودانيين. مارأيت من بعض زملائي السودانيين انذاك وما اراه الان في كوردستان يمكنني الجزم بأن الشعبين اصبحوا لايتشبثون بارائهم كما كان متعارف عنهم في الماضي وفقدوا مزاجهم العصبي الحاد . بعد انقلاب البشير وتغير الاجواء داخل الجاليه السودانيه والاهم داخل حديقة السفاره قلت زياراتي واتصالاتي مع الجاليه
صوره 3: بيتي قبل وبعد الهجوم واثار الرصاص على الباب |
في اوائل سبتمبر 1991 رجعت الى هركيسا عاصمة شمال الصومال والتي اعلنت انفصالها عن مقديشو واعلان جمهورية ارض الصومال في 18.5.1991 وحضرت وعايشت مأساة ذالك الشعب التي دمر مدنها سياد بري في اوائل الثمانينيات. عدت الى هركيسا كمسئول عن الاغاثه الزراعيه في منظمة الفاو في شمال الصومل. ان ارض الصومال كانت دوله مستقله معروفه باسم الصومال البريطاني وبعد استقلالها من بريطانيا في عام 1960 اصرت على الوحده مع الجنوب اي صوماليا الايطاليه في الجنوب والتي كانت شبه متخلفه وفيها الكثير من المستوطنين الايطاليين
صوره 4:قط السيرفل الافريقي قتل داخل البيت |
بعد حوالي سبعة اشهر توجهة جنوبا و رجعت الى مقديشو وبدئنا باانشاء عدة مراكز للمعونه الزراعيه و الخدمات البيطريه للفاو في ارجاء مختلفه من الصومال وكانت مواقع مراكزنا تتغير بإستمرار بعد عمليات النهب والسلب والاعتداء على العامليين وحسب مزاج وابتزاز امراء الحرب المحليين . انا شخصيا كنت معرضا لمخاطر كثيره وتهديدات وحتى الخطف في قسمايو. تغير اماكن مكاتبنا ومخازننا وكانت تصاحبه عادة تغير العاملين و تغير الحرس او المليشيات وكانوا عادة من نفس عشيرة واقرباء امراء الحرب المحليين الذين كنا نحل في مناطقهم بعد طردنا من مواقعنا القديمه. وباللهجه العراقيه كنا مثل"ام البزازين" اي مثل ام القطيطات وتنقلها الدائم من مكان لاخر حاملة قطيطاتها.
صوره 5: يوم انزال الامريكيين من سطح مكتبنا |
صوره 7 |
حضرت انا وصديقي الدكتور الاردني خالد ابو رمانه وصول هدية بابا نويل الى مقديشو, جلب الكثير من الصوماليين صباح ذالك اليوم اسلحتهم ومنها الثقيله لتسليمها الى القوات الامريكيه الصديقه والتي كان من بين افرادها الابن الاكبر لعيديد العريف حسين. لم يتجاوب الامريكيين لطلب الصوماليين بحجه انهم قدموا للصومال لتوزيع الاغذيه و مساعدة الامم المتحده للتخفيف من المجاعه في البلاد وليس لنزع سلاح المسلحين الصوماليين. والسؤال الذي كان يحيرني انذاك واتذكر بأني سألت ممثل الامين العام للامم المتحده المرحوم عصمت كتاني في مكتبه عصر ذالك اليوم بعد ان استقبل كتاني كبار الضبا ط الامريكين وتنفسنا معه كمية هائله من الغبار المتصاعد من سجاد المكتب نتيجة لقيام الضباط بالتحيه االعسكريه والمصحوبه بدك الارض تحت اقدامهم. واردت ان اعرف لماذا ارسلت امريكا هذه الهديه الكبرى والمتمثله بجيش عرمرم لتوزيع الطعام اذا كان بإمكان المنظمات عمل ذالك لو وفروا لنا الدعم اللوجستي والمادي. فضحك المرحوم عصمت كتاني وقال انت جديد على الاميركان و لا تعرفهم "غدا لناظره لقريب". بعد ايام من هدية بابا نويل الاولى للصومال وصلت الهديه الثانيه وكان بوش الاب. لقد عملت مع خمسة ممثلين لبطرس غالي وكوفي انان من عام 1991 لغاية مغادرتي للصومل في اغسطس 1996
صوره 6 |
الانزال الامريكي منذ بدايته كان مصحوبا بالتوتر وسببه ان الجيش الامريكي والشعب الصومالي يتميزان بمزاج عصبي حاد يشاركهم في ذالك السودانيين وبني قومي الكورد. بعد عشرة اشهر من الانزال الامريكي وبالضبط يوم 3 اكتوبر 1993 وجدت نفسي نزيل الفندق الوحيد في مقديشو وكان اسمه " اوتيل ناس حبلود" في وسط مقديشو, انتقلت الى الفندق بعد ان فقدت مكتبي وسكني وحراسي والعاملين معي .اذا كان مكتبنا واقعا في منطقه تعود لسيطرة الجنرال عديد والذي اخذ يناصب الامم المتحده ومنضماتها العداء معتبرنا ذيولا للامريكان. كنا نزيلين وحيدين في الفندق والنزيل الاخر معي كان السفير السوداني للصومال انذاك واسمه عبد الباقي ويحمل شلوخ على وجنتيه. وظهر ذلك اليوم المشئوم فتح الجحيم ابوابه من حول فندقنا اذ بدأت المعركه المعروفه بين عيديد والامريكان ادت الى موت 19 امريكا وسقوط هليكوبترين و قتل اكثر من الف صومالي. المعركه كانت بعيده عنا بمسافة كيلومترين ولكن كان هناك ضرب شديد من حولنا فنزلنا انا والسفير الى الطابق الارضي والذي كان تحت مستوى الشارع. كان المعروف انذاك بأن الحكومه السودانيه بقيادة البشير كانت على ود مع الجنرال عيديد
صوره 10: الاشخاص الذين حموني لفتره طويله |
اسم الفندق الذي نزلنا"حوصرنا" فيه انا والسفير السوداني كان اسمه ناس حبلود وتعني بالصوماليه نهود العذراء(صوره6). لا اعرف ماذا حل بالفندق واسمه المتواضع على يد حركة الشباب بعد احتلالهم لمقديشو. ناس حبلود هما تللين موجودين في شمال غربي الصومال وقريبه من مدينة هركيسا( صوره 7). وعرفت بأنه وفي العراق وقريبا من الحدود الاردنيه وبقرب قاعدة الوليد يوجد تللين مشابهين لما موجود في الصومال واسمهما نهيدين
صوره 8: ماتبقى من السفاره البريطانيه-جيراننا |
بعد حوادث 3 اكتوبر تمكنت من ايجاد مكتب ومقر جديد للفاو- صوماليا في وسط مقديشو وفي منطقة حمر جب جب و مباشرة بجوار ماتبقى من السفاره البريطانيه.(صوره 8) لقد اخترت المنطقه لكونها قريبه من الميناء ولوجود طريق خلفي يوصلنا لما تبقى من مطار مقديشوالدولي(صوره 9) و التي كانت تحت سيطرة القوات المصريه والتي كنا على اتصال دائم بهم وكذلك لاني سكنت لفتره في تلك المنطقه قبل بدء الحرب الاهليه . كما حصلت على الحماية والترحيب من سكان المنطقه وخاصة ابناء سليمان (صوره 10) وهي واحده من الافخاذ السبعه لعشيرة الهويه الكبيره والتي كان الجنرال عيديد احد افرادها. مكتبنا الجديد(صوره 11) كان يحتوي على سكن ومخازن وسكن للحرس وكراجات وبئر للماء وحصلنا على مولدتين كبيرتين من الامريكان لانارة المكتب والمنطقه والتي نالت الاستحسان من الجيران
صوره 9: مطار مقديشو الدولي |
صوره 11: ماكتب على سطح مكاتبنا لتعريف هليكوبترات الاباجي الامريكيه بهويتنا |
صوره 12 :لفات القات الذاهبه الى الصومال من كينيا جوا وبكميات كبيره ويوميا |
كانت الطائرات من مطار ويلسون تقلع فجرا وصباح احدى الايام وصلت المطار وحصلت على بطاقه الركوب الزرقاء وجلست لوحدي بانتظار الطيار وقد لاحظت وجود شخص اخر يجلس في الجهه المقابله وتذكرته رأسا اذ كان الدكتور مطرف الصديق والذي لم اراه منذ اكثر من اربعة سنوات. واستفسرت منه عن سبب ذهابه الى الصومال فقال لي ان السفير السوداني والذي كان معي في الفندق يوم معركة الامريكان مع قوات عديد قد اختطف من قبل عيديد حليفهم القديم. طمئنته واعلمته بأن العاملين معي في مقديشو سيأخذوننا من المطار الى سكننا وربما سيسهلون له الاتصال بالمخطوف والخاطفين
حال هبوط الطائره على مدرج مطار مقديشوالمتهالك رأيت الشباب يانتظارنا قرب المدرج. واقترحت على د. مطرف ان يقابل قائد القوه المصريه في الصومال والذي كان مقره في المطار العميد عبد الجليل فخراني رغم برودة العلاقات بين مصر والسودان في تلك الايام. فتوجهنا الى مقر الفخراني وكان له مساعد اسمه العقيد ابراهيم وبعد دخولنا المكتب عرفت زميلي بالعقيد مكتفيا بذكر اسمه الاول مطرف دون ذكر اسباب وجوده في المطار واخبرته بان مطرف يرغب بمقابلة الفخراني. فقال العقيد بأن هناك مجموعه من الصوماليين مع رئيسه وحال خروجهم سيأخذه لمقابلة الفخراني. وبسرعه ظهرت كبايات الشاي المصريه "سكر زياده" وبدأنا باحتسائها على انغام اصوات الرصاص والقادمه من الاماكن القريبه من المطار. وهنا قال العقيد وبكل جديه وتهكم" يا استاذ الدنيا مولعه في مقديشو وانت جاي تغني, وانت حتغني فين انشاء الله" على مايبدو ان العقيد سمع مني كلمة مطرب بدل مطرف
شكرا دكتور على المقال الرائع والممتع!
ReplyDeleteجورج طرابيشي في كتابه الرائع "هرطقات عن الديموقراطية والعلمانية والحداثة والممانعة العربية" في مقالته اساطير سياسية عربية يورد ما يقوله عمانويل سيفان عن "الحدود المصطنعة" بين الدول العربية كاحد الاساطير التي سقطت بعد حرب الخليج الثانية. فالكويت بعد الاجتياح العراقي سنة 1990 و الاردن اثناء المواجهة مع الفلسطينين سنة 1970 برهنوا على ان لديهم نزعة قومية حقيقة لبلدانهم "المقسومة" من قبل "المحتل".